في أركان هذه الخيمة العربيّة اعتاد الجلوس (عبيد)، أحيانا مع أصدقائه يتحاور ويتبادل الأخبار، وأحيانا أخرى بصحبة أفراد عائلته يتسامر، وهناك الأفكار تجتمع تدلّى منها خيوط الذّكريات، لكنّه في الآونة الأخيرة راح يغرق في رمال متحرّكة من الظّنون بأنّ أمنياته باتت صعبة المنال وأحلامه ضاعت في بيداء الهواجس.
بين صفحات هذه الرّواية تسكن قصّة عائلة السّيد (عيسى) كبروا وهم على يقين بأنّ أحلامهم تكبر معهم وهم يكبرون معها، ويبقى الفزّاعة (زيدان) هو الوحيد الصّغير الّذي لا يكبر أبداً، يحفظ لهم أناشيدهم و أعياد ميلادهم وقصصهم الإنسانيّة، يسمعونها حين تحملها لهم رياح السّنين في لحظات مغيب الشمس...
هي قصّة فيها الأحاسيس مشتعلة، فيها حكايات العشق تتجوّل على ضفاف نهر الحبّ، كانت خطواتنا تسير فوق بساط قد نثرت عليه زهور المشاعر، والضّحكات تعلو محلّقة في أرجاء المكان السّاحر، كنّا نجتمع في كلّ يوم قبل مغيب الشّمس، وكنّا نتسامر حتّى آواخر اللّيل.
هنا في الجزء الأوّل (برقُ المُزونْ) ينتشر إحساس جميل بين صفحاته، يصل إلى مزيج من أفراحٍ ذي صبغة نجاح شخصي، و بعض الفشل في اختيار الطرق المؤدّية إلى تقليل الخسائر المعنوية و المادية قدر المستطاع. وهذا شكّل صراعات مستمرة، و الْفاصل هو باعتماد الْإصرار و التّوكل على الله في تبيين الصَّواب من الْخطأ.
في الجزء الثّاني (برقُ المزون) الأفكار تتوارد تباعاً فتطفو على سطح الأحاديث مع أشخاص من مختلف شرائح المجتمع، من دون النّظر إلى ميولهم العقائدية، أو حتّى درجاتهم الاجتماعيّة، ما كام يشغلني مثيراً هو محاولاتي الحثيثة في الوصول إلى التّقارب المثالي في وجهات النّظر لأقرب نقطة التقاء لا أكثر و لا أقل..
في هذا الجزء الأوّل يبرز جليّا ذلك الأمل المترامي الأطراف بلقاء قلوبنا المغتربة والّتي تسكن طواعيّة في مدن أحلامنا الوردية تتجوّل بحرّيّة الفرسان تتحرّك، وفي صمت تنوح الأفئدة على الماضي وهي تسير في دريب الحاضر تتوجّه إلى مدن المستقبل، فهل يستطيع (سند) أن يقاوم ظروف غربته، ويعود بعد سنوات كما أراد هو وخطّط قبيل سفره مضحّيا بكلّ شيء حتّى أسرته تتجرّع معه الفراق،فهل ينجح أو يفشل في تحدّي ظروفه الحالية ويتحدّى الأحداث المرافقة الرّاهنة؟.
هي المشاعر تتسارع في الأفئدة تطوي الأيّام فيها الصّمت القاهر في الغربة الفرنسيّة، وتسير بنا أقدارنا حيثما شاءت غربتنا وليس لنا أي قرار عبره نعاند فنسافر لنتعلّم عن يقين تامّ، بينما في النّهار تعجّ الحياة بالضّحكات نسلوا بها، وفي المساء نقبع في غرفة انفرادية قد تكون زنزانة دون حرّاس، فنحاول بشتّى الطّرق أن نبني لنا حكاية فريدة الأحاسيس، أو لربّما أسطورة فيها الأنا جارية تبكي سيّدها، والمكان يحفظها فقد نعود ثانية لنقرأها بالعناء مع الوحدة نعيش ظروفنا الفرنسيّة.
لذلك بدا واضحا أنّ (سند) يلوذ في لحظات من اليأس إلى بساتين الحياة يقطف أزهارها، فيدخل أبوابها الشّاهقة المبهرة فتخرج من فؤاده الآهات، ثمّ يسير عبر متاهات مليئة بالزّهور في دروب الحياة، وعبق الحاضر جوريّا يتنفّسه هذا الطّالب ليختلط مع ماضيه التّراثي بروائح البخور، في الواقع كالأطفال يلهو لبعض الوقت مع الأماني يلعب وقد تكون أمنية واحدة يتيمة تبحث عن ابتسامتها الضّائعة وهو يتابع حظوظها، وها هو سيخرج من مدينة (تور) يتوجّه إلى المستقبل الآتي إلى مدينة (استراسبورغ) لتكون محطّته الأخيرة.
كان الوقت يمضي متسارعا في خطواته تارة باللّهو يتزيّن في العاصمة الباريسيّة، وتارة بطيئا جدّا بالصّبر المتدفّق سموّا يتحيّن الفرصة لتكوين الذّات الإنسانيّة في قوّتها وضعفها، أمّا المصيبة الكبرى إنّه لا يعود مطلقا إلى الخلف، فتبقى أطياف الأصدقاء تدور حولنا ونحاول بالمشاعر أن نوقفها عند عتبات الزّمن لكنّ العقارب لا تتوقّف تتقدّم ونتقدّم نحن معها.
أمّا بخصوص تلك الشّخوص الآدميّة الغريبة الأحاسيس فهي تخرج إلى الوجود في الحياة اليوميّة مرّات باسمة ومرّات عابسة؛ خصوصا عند لقاء بالصّدفة بين (سند) المغترب والنّاس الآخرين حيث يعبق المكان بعطر فرنسي متميّز؛ فيمر بجانبه ليسحبه طواعية إليهم؛ فيرحل بكل كيانه الآدمي ليغوص في أعماق الماضي البعيد السّحيق؛ والحلم بالنّسبة له أن يتنفّس ندى الصّباح في أحداث بقت روح (سند) تطوف حول مناظر باريسيّة لا يستطيع رفضها بماهيّتها الفرنسيّة.
ومن يدري قد يكون السّبب في ضياع الأسرة هو (الأب) نفسه من حيث لا يحتسب!، وهل كلمات مثل الحريّة والتّحرر الاجتماعي؟؛ هي من تشرح لنا موقع هذا أو ذلك (الأب) في عصر يتّسم بالحريّة الفكريّة والحريّة الشّخصيّة المطلقة، أم أنّ (عبدالله) قد اتّخذ قراره بالتّمردّ على حياته الشّخصيّة وعصف بعنوة بالعادات والتّقاليد؛ بعد أنّ تجرّع كأس التّحرّر من أيادي أفراد أسرته قبل الغرباء!.
قصّة (كنتُ أَباً) في جزئها الثّاني، تحتضن بين صفحاتِهِا قصّة اجتماعيّة إنسانيّة تدور أحداثها في المدينة السّاحلية الشّرقية، أبطالها أسرة بسيطة يترأسها الأب الّذي كان يُمارس حياته اليومية الاعتياديّة بصورة روتينيّة كبقيّة الآباء، وبين ليلة وضحاها انقلبت حياته إلى كابوسٍ أطاح بكل قيمه ومعانيه.
لم يكن حب المغامرة هو الشّيء الوحيد الّذي جعل حياة الشّاب (محمد بن عبيد) تنقلب رأسًا على عقب في ظروف معيشيّة استثنائيّة تمرّ بها مدن منطقة الخليج العربي، بل هي إرادة تغيير واقعه الرّاهن المرير من أجل الوصول إلى النّجاح بأي ثمن كان وسيكون بمتغيّرات النّسب، قصده - بحسب طبيعته البشريّة - تحقيق أهدافه حتّى لو بالسّفر بعيدا عن وطنه وترك حبيبته، أن يهاجر بجسده وقلبه المحبّ في غربته يتعذّب.وهكذا يستمر بالأمل يعيش واقعه لتحقيق أمنياته باغتنام الفرص، ولكنّ الأقدار تضع أمامه (مسعود) المشعوذ الطمّاع المرعب حيث يعمل جاهدا في غرس خنجره المسوم في قلبه قبل جسده، وهدفه أن يتذوّق الشّاب الخلوق الهزائم وقد يموت أيضا من هول الصّدمة القاتلة، فمن منهما سينجح في تنفيذ ما يرغب؟، من المنتصر ومن المنهزم؟.