في هذا الجزء الأوّل يبرز جليّا ذلك الأمل المترامي الأطراف بلقاء قلوبنا المغتربة والّتي تسكن طواعيّة في مدن أحلامنا الوردية تتجوّل بحرّيّة الفرسان تتحرّك، وفي صمت تنوح الأفئدة على الماضي وهي تسير في دريب الحاضر تتوجّه إلى مدن المستقبل، فهل يستطيع (سند) أن يقاوم ظروف غربته، ويعود بعد سنوات كما أراد هو وخطّط قبيل سفره مضحّيا بكلّ شيء حتّى أسرته تتجرّع معه الفراق،فهل ينجح أو يفشل في تحدّي ظروفه الحالية ويتحدّى الأحداث المرافقة الرّاهنة؟.
هي المشاعر تتسارع في الأفئدة تطوي الأيّام فيها الصّمت القاهر في الغربة الفرنسيّة، وتسير بنا أقدارنا حيثما شاءت غربتنا وليس لنا أي قرار عبره نعاند فنسافر لنتعلّم عن يقين تامّ، بينما في النّهار تعجّ الحياة بالضّحكات نسلوا بها، وفي المساء نقبع في غرفة انفرادية قد تكون زنزانة دون حرّاس، فنحاول بشتّى الطّرق أن نبني لنا حكاية فريدة الأحاسيس، أو لربّما أسطورة فيها الأنا جارية تبكي سيّدها، والمكان يحفظها فقد نعود ثانية لنقرأها بالعناء مع الوحدة نعيش ظروفنا الفرنسيّة.
لذلك بدا واضحا أنّ (سند) يلوذ في لحظات من اليأس إلى بساتين الحياة يقطف أزهارها، فيدخل أبوابها الشّاهقة المبهرة فتخرج من فؤاده الآهات، ثمّ يسير عبر متاهات مليئة بالزّهور في دروب الحياة، وعبق الحاضر جوريّا يتنفّسه هذا الطّالب ليختلط مع ماضيه التّراثي بروائح البخور، في الواقع كالأطفال يلهو لبعض الوقت مع الأماني يلعب وقد تكون أمنية واحدة يتيمة تبحث عن ابتسامتها الضّائعة وهو يتابع حظوظها، وها هو سيخرج من مدينة (تور) يتوجّه إلى المستقبل الآتي إلى مدينة (استراسبورغ) لتكون محطّته الأخيرة.
كان الوقت يمضي متسارعا في خطواته تارة باللّهو يتزيّن في العاصمة الباريسيّة، وتارة بطيئا جدّا بالصّبر المتدفّق سموّا يتحيّن الفرصة لتكوين الذّات الإنسانيّة في قوّتها وضعفها، أمّا المصيبة الكبرى إنّه لا يعود مطلقا إلى الخلف، فتبقى أطياف الأصدقاء تدور حولنا ونحاول بالمشاعر أن نوقفها عند عتبات الزّمن لكنّ العقارب لا تتوقّف تتقدّم ونتقدّم نحن معها.
أمّا بخصوص تلك الشّخوص الآدميّة الغريبة الأحاسيس فهي تخرج إلى الوجود في الحياة اليوميّة مرّات باسمة ومرّات عابسة؛ خصوصا عند لقاء بالصّدفة بين (سند) المغترب والنّاس الآخرين حيث يعبق المكان بعطر فرنسي متميّز؛ فيمر بجانبه ليسحبه طواعية إليهم؛ فيرحل بكل كيانه الآدمي ليغوص في أعماق الماضي البعيد السّحيق؛ والحلم بالنّسبة له أن يتنفّس ندى الصّباح في أحداث بقت روح (سند) تطوف حول مناظر باريسيّة لا يستطيع رفضها بماهيّتها الفرنسيّة.
ها نحن نحلّق في فضاء الكلمات مع مفرداتنا اللّغوية في محتواها الفكري ننطلق إلى عوالمنا، قد تكون بعض المفردات والجمل رجعيّة بمنطق القرن الرّاهن (21)، أو لربّما أكبر بكبير من فلسفة أفكار الآخرين، ما يهمّ أنّنا نتجادل عبر وسائل التّواصل الاجتماعي بحريّة شبه مشوّهة، فلا نشاهد في الواقع سوى الصّور المنقولة، أمّا خواطرنا فهي بلا قيود تصكّ براهينها لتصدح في وعيّ فطري.
هي قصّة عشقٍ فيها الهواجس مشتعلة، والحكاياتُ فيها بالودّ تتجوّل على ضفاف نهر الحبّ تغنّي، كانت خطواتنا تسير فوق بساط قد نثرت عليه زهور المشاعر، وصوت حبيبتي بالضّحكات يعلو في أرجاء المكان السّاحر، كنّا نجتمع قبل مغيب الشّمس، كنّا نتسامر حتّى آواخر اللّيل برفقة القمر، والأحاديث غناء قلوبنا فتتمايل حنانا طربا ليس له في العالم مثيل، وهناك كتبت أوّل كلمة نطقتها بلهفة وحنين قلت لها (أحبّك) والدّمع على خدّها يسيل، فملأتُ منه كؤوس آهاتي أحتسيها حين تمرّ ذكراها في منتصف اللّيل هي الّتعابير؛ واللّيل طويل والعمر قصير. وهذه ابيات شعري لها..آهاتٌ تجلّت في قلبي تردّد نبض ألامي، ولها ولهي يغنّينزفي عبيره أشجاني..في صحائفي غراميهو نشيدُذكراها،ولها أصوغ لواعجي تعابيرها عبق حناني..
لم يكن حب المغامرة هو الشّيء الوحيد الّذي جعل حياة الشّاب (محمد بن عبيد) تنقلب رأسًا على عقب في ظروف معيشيّة استثنائيّة تمرّ بها مدن منطقة الخليج العربي، بل هي إرادة تغيير واقعه الرّاهن المرير من أجل الوصول إلى النّجاح بأي ثمن كان وسيكون بمتغيّرات النّسب، قصده - بحسب طبيعته البشريّة - تحقيق أهدافه حتّى لو بالسّفر بعيدا عن وطنه وترك حبيبته، أن يهاجر بجسده وقلبه المحبّ في غربته يتعذّب.وهكذا يستمر بالأمل يعيش واقعه لتحقيق أمنياته باغتنام الفرص، ولكنّ الأقدار تضع أمامه (مسعود) المشعوذ الطمّاع المرعب حيث يعمل جاهدا في غرس خنجره المسوم في قلبه قبل جسده، وهدفه أن يتذوّق الشّاب الخلوق الهزائم وقد يموت أيضا من هول الصّدمة القاتلة، فمن منهما سينجح في تنفيذ ما يرغب؟، من المنتصر ومن المنهزم؟.